ليس في الرسالتين المتبادلتين بين الزميلين عبد المولى المروري وإسحاق شارية مجرد تصفية حساب، أو سجال شخصي. إننا أمام مرآة صادقة – ومقلقة في الآن ذاته – لحالة الانهيار الأخلاقي والسياسي الذي يضرب النخبة الحزبية والمهنية معًا، حيث تتقاطع خيوط الزمالة، والانتماء، والماضي، والموقف، لتنتج نموذجًا صارخًا لما يمكن تسميته بـ”حرب الجميع ضد الجميع”.
ولكن حين نُنزِل الكلمات من مقام العاطفة إلى مقام العقل، لا يسعنا إلا أن نتعامل مع شهادة إسحاق شارية باعتبارها وثيقة سياسية – مهنية نادرة، تضيء زوايا معتمة في تاريخ علاقة بعض الأحزاب بالمهنة، وتفكك طريقة تدبير ملفات كبرى تم الزج فيها برموز وطنية، أحيانًا دون وعي منهم، وأحيانًا بدافع الأمل في الإصلاح من الداخل.
من الوفاء إلى المكاشفة: الوجه الآخر للقصة
عبد المولى المروري كتب بقلب مكسور وبلغة شاعرية تفيض ألما، مستحضرًا قيمة الوفاء للنقيب محمد زيان، ومندّدًا بما اعتبره “طعنة من الخلف”. لكن إسحاق شارية، من جهته، لم يدفع بالتبرير، بل تقدم إلى العلن باعترافات مركبة، فيها السياسي والمهني، وفيها الشخصي والمؤسساتي، وقدّم سردية مقابِلة تقوم على المكاشفة والمحاسبة الذاتية.
في حالة نادرة في المشهد السياسي، نجد من يعترف بأنه اندفع، وأُغري، واستُعمل، ولكنه لم يبتلع لسانه كما يفعل آخرون. والأهم، أنه وضع على الطاولة تفاصيل موثقة عن كيف تُدار بعض الأحزاب من خلف الستار، وكيف تُصاغ البلاغات باسم من لا يعلم، وكيف يُستعمل الأفراد وقودًا لمعارك لم يختاروها.
السياسة بين المهنة والسلطة
أهم ما تكشفه هذه المواجهة أن مهنة المحاماة – التي يُفترض أن تقوم على الاستقلال، والسمو، والمسؤولية – صارت أحيانًا تُستعمل كـ”درع نضالي” في معارك لا علاقة لها بمهنة الدفاع، بل في ملفات يُراد بها تصفية الحسابات مع الدولة أو الخصوم أو حتى الزملاء.
هيبة المهنة لم تُمس فقط من الخارج، بل من داخلها، حين تماهى بعض الفاعلين المهنيين مع خطابات حزبية متطرفة، أو تحوّلوا إلى أدوات في معارك سياسية ترتدي لبوس الدفاع عن الحقوق، بينما تخفي مشاريع شخصية أو حزبية لا صلة لها بالعدل.
وهنا، تبرز شجاعة شارية في إعادة التمييز بين الميدانين، مؤكدًا أن السياسة مكانها الحزب، أما المهنة فمكانها المحكمة والضمير. وهو فصل جوهري كان ينبغي أن يطرحه الجسم المهني من الداخل، لا أن ينتظر من يفرضه عليه الخارج.
حين تُستباح المهنة باسم الولاء الحزبي
من الشهادات المؤلمة التي لم تجد إلى اليوم إنصافًا أو اعترافًا من الأطراف المعنية، تلك التي تعود إلى سنة 2004، حين تم اقتحام مكتب الأستاذ المحامي زهير أصدور، وسرقة كتبه وأغراضه المهنية والخاصة، من طرف عناصر تابعة لشبيبة الحزب المغربي الحر، بتحريض مباشر من منسقه آنذاك النقيب محمد زيان، في سياق تصفية سياسية ومهنية لا تمتّ بصلة لا للممارسة الديمقراطية، ولا لحرمة مهنة المحاماة.
إن هذه الواقعة ليست مجرد حادث عرضي، بل صفحة سوداء في تاريخ العمل السياسي المرتبط بالمهنة، حين تتحول الخلافات في الرأي إلى تهديدات مادية، وتُستباح المكاتب التي يُفترض أن تكون ملاذًا للحق، لا مسرحًا للتعسف والانتقام.
والمؤلم أكثر أن هذه الحادثة – رغم خطورتها – مرت دون مساءلة ولا اعتذار ولا حتى اعتراف بالخطأ، ما يعزز الشعور بأن ما وُصف زورًا بـ”النضال” لم يكن في حقيقته سوى غطاء لانتهاكات ممنهجة استهدفت المخالفين في الرأي داخل الحزب.
حين تنقلب القيم إلى شعارات.
المؤسف في كل ما جرى، أن القيم نفسها أصبحت موضوع مساومة: الوفاء، الاستقلال، الشفافية، الدفاع عن الحقوق… كلها تحولت إلى عناوين انتقائية، تُرفع حين تخدم مصلحة معينة، وتُطوى حين تصطدم برغبة في المناورة أو الاستحواذ.
لكن، رغم الألم، فإن ما قاله شارية يجب أن يُسمع لا بغرض الإدانة أو التشهير، بل بغرض المراجعة الجماعية. فالرجل لم يُبرّئ نفسه بالكامل، بل صرّح بأنه أخطأ، وأنه تم استغلاله، وأنه دفع الثمن. وهذه بداية وعي لا يجب أن تُقابل بالسخرية، بل بالإنصات.
من المراجعة إلى الأمل.
إذا كانت عبارة “حرب الجميع ضد الجميع”، التي صاغها توماس هوبز لوصف حالة الفوضى وانعدام الضوابط في الطبيعة البشرية، تعبّر عن بلوغ التوتر أقصاه وانهيار القيم المنظمة للعلاقات، فإن لحظة الصدق التي بادر بها شارية، على قسوتها، قد تكون مدخلًا لمراجعة أعمق. مراجعة تستدعي إعادة التفكير في كيفية تأطير أبناء المهنة داخل الفضاء الحزبي، وضرورة وضع حدود واضحة بين ما هو سياسي وما هو مهني، وإحياء قيم الزمالة الحقيقية، وسمو العمل الحزبي، وأخلاقيات النقاش العمومي التي تمنع الانزلاق نحو الفوضى التي حذر منها هوبز قبل قرون.
المروري صدق في ألمه، وشارية صدق في اعترافه. ولعل بين الاثنين، تاريخًا يستحق أن يُروى لأجل الإصلاح لا الانتقام، ولأجل التصالح مع حقيقة أن كل تجربة بشرية معرضة للزلل… ما دام فينا من لا يزال يجرؤ على قول: لقد أخطأت.