تعيش الساحة السياسية والرقمية في المغرب على وقع جدل متصاعد، بعدما فجّر مقطع فيديو للنائب عبد الله بوانو عاصفة سياسية غير مسبوقة. مقطع قصير، لكنه كافٍ ليفتح باباً واسعاً على التناقضات التي تُحكم أداء جزء من النخبة البرلمانية، وتكشف ما يجري خلف واجهة الخطاب الأخلاقي الذي يرفع في العلن.

ففي لحظة واحدة، انتقل بوانو من نفي قاطع لأي علاقة له بشركات الأدوية—مُستفتحاً مداخلته بالقَسَم—إلى عرض معطيات دقيقة ومفصلة حول اتصالات يُفترض أنها جرت بين مدير الوكالة الوطنية للأدوية ومسؤول في شركة “حكمة”. أكثر من 20 اتصالاً خلال عطلة نهاية الأسبوع، وفق روايته.

هنا تبرز الأسئلة التي شغلت الرأي العام منذ أن انتشر الفيديو:
من أين حصل بوانو على هذه المعلومات الحسّاسة؟ ومن يمدّه بمعطيات دقيقة عن تحرّكات قطاع تُعتبر تفاصيله في الغالب محصورة بين مؤسسات ومهنيين؟

التناقض بين النفي المطلق وامتلاك معطيات داخلية لم يكن ليمر بسهولة. فقد أعاد فتح النقاش حول حجم تغلغل لوبيات الأدوية داخل المؤسسة التشريعية، وحول نوعية العلاقات التي تنسج بين بعض النواب وفاعلين اقتصاديين يملكون القدرة على التأثير داخل مسار التشريع.

ولم يكن اسم الدكتور الإبراهيمي بعيداً عن دائرة التساؤلات. فالرجل الذي كان عضواً نشيطاً في اللجنة الاستطلاعية للأدوية بين 2019 و2021، والذي شارك في زيارات ميدانية واجتماعات رسمية مع شركات القطاع، خرج بدوره ليعلن أنه “لا يعرف أي شركة ولا علاقة له بأي منها”.
هو تصريح أثار دهشة واسعة:
كيف لنائب شارك في لجنة متخصصة، ووقف على تفاصيل الصناعة الدوائية، وزار مقرات الفاعلين، أن ينفي معرفته بهم؟ وما الرسالة التي تُوجَّه للرأي العام حين يُقدَّم خطاب من هذا النوع؟

ولم تتوقف موجة الشكوك هنا. فقد جاءت شهادة النائب محمد بعزيز، رئيس لجنة العدل، لتضيف بعداً آخر للصورة، حين أكد داخل اجتماع رسمي أن لوبي التأمينات جنّد نواباً لتمرير تعديلات تخدم مصالحه. إنها ليست مجرّد اتهامات متناثرة، بل تصريحات تصدر عن مسؤولين في مواقع مؤسساتية، وتؤشر على أن اللوبيات ليست وهماً، بل واقع يتحرك في العمق.

أمام هذه المعطيات، يجد المواطن نفسه أمام مشهد مقلق:
نواب يقدمون أنفسهم كحماة للنزاهة والمصلحة العامة، بينما تكشف الوقائع عن شبكات تأثير تتفاعل في الخلفية، وعن تناقضات تُسقط الخطاب الأخلاقي من أعلى سلّمه.

سقوط قناع “الطهرانية” ليس حدثاً عابراً. إنه لحظة سياسية كاشفة تُعيد طرح السؤال الجوهري:
هل يمثّل هؤلاء بالفعل إرادة المواطنين، أم يتحرك جزء منهم داخل هندسة مصالح مركّبة، يرتبط فيها التشريع بحسابات اللوبيات والانتخابات أكثر مما يرتبط بالصالح العام؟

ملف بوانو والإبراهيمي ليس حادثة معزولة؛ إنه مرآة لأزمة أعمق تتجاوز الأشخاص نحو بنية سياسية باتت تحتاج إلى مراجعة حقيقية.
واليوم، يبدو أن البرلمان المغربي أمام لحظةٍ فارقة تتطلب وقفة تقييم شجاعة تعيد الثقة للمواطن، وتغلق الباب أمام كل من يحاول تحويل السلطة التشريعية إلى مجال لتصفية الحسابات أو لخدمة مصالح خاصة تتحرك خلف الأضواء.

Shares:
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *